مناقشات ..حول القصة القصيرة بجنوب الصعيد

ـــــــــــــــــــــــــــــ
عماد عزت
تمهيد
القصةُ القصيرةُ هي الفن المراوغ و الذي يصفه النقادُ بأنه الفن السهل
الممتنع .. فزمن التلقي لا يتجاوز الدقائق، بينما زمن التأويل يأخذ وقتا
طويلا. على عكس الرواية التى يتزامن فيها زمنُ التلقي مع زمن التأويل، ومِن
هنا اقتربت القصة القصيرة من الشعر، وتماست القصة القصيرة مع القصيدة في
نقاط عديدة أهمها زمن التلقي والتأويل،واللغة.
وإذا كانت دراسةُ تطورِ
هذا الفن قد تمت على أيدي كبار النقاد في مصرَ فإننا في هذه المناقشة سنقرأ
النصوصَ بناء على مجموعة محاور، نحاول من خلالها رصدَ هذا التطور فنيا على
الرغم من أن المنهجَ المعلوماتي مطلوبٌ لخصوصية هذه الدراسة ولكن ندرة
المراجع مشكلة، لذا سنتوقف عند المعلومات البسيطة التى حصلنا عليها من بعض
الإشارات التى ستأتي في موضعها مِن الدراسة .

*صوت النص والفعل القرائي *

عندما يمارسُ المتلقي فعلَ القراءةِ الأول ، وينتهي من القصة في لحظات،
يعاود ممارسةَ الفعل مراتٍ ومرات، وتأخذه نشوةُ النص حين يتوقف بعد رصده
لفضاء النص يعلو صوته "يااه .." معبِّرا عن إعجابه بالقاص. ولمّا كانت هناك
عواملُ تؤثر على صوت النص وبالتالي تؤثر تأثيرا سلبيا على الفعل القرائي،
فإننا نحاول رصدَ هذه العوامل التي نوقشت كثيرا ضمنَ دراسات العديد من
النقاد بأساليبَ مختلفة .
كثيرٌ مِن كُتَّاب القصة - وخاصة الناشئة -
يؤطرون المتلقي عند حدود معينة، ويأتي فعلُهم الإبداعي منطلِقا مِن هذه
الفكرة، لهذا يمتلئ النصُ بصوتهم المرتفع، الذي يشوّش على فِعل التلقي،
ويسحب منه بساطَ النشوةِ والاستمتاع بفضاء النص.
ومِن العوامل التي تؤثر على صوت النص وبالتالي توجه الفعل القرائي:

(1) الإهداء :-

"إن ممارسةَ الفعلِ القرائي تبدأ مِن عنوان النص الذي أَخذ بُعدا خاصا في
القصة الحديثة، وحينما يأتي العنوانُ واضحا أو مرفقا به إهداء فإن ذلك يأخذ
المتلقي إلى وجهةٍ معينة من التأويل، وبالتالي يَفقِد النص ذاتَه، ويكون
المتحكِّم في فعل القراءة صوتُ المؤلف ونرى التأكيد على هذا مِن جانب
الدكتور جابر عصفور:

" لأنه مادام سَبق الشاعرُ الصورةَ بمعنى
نثري مباشر يرتبط بها أو تأتي هي دليلا عليه، فمِن الطبيعي أن تتقلص دلالة
الصور وتقوم في حدود هذا المعنى الذي فرض عليها أن تتعلق به، فلا تستطيع
تجنبه، لذلك لن تشع في أكثر من اتجاه أو توحي بأكثر من معنى فيفقد إحساس
المتلقي بها على الفور ......"

وإنْ كان الدكتور جابر عصفور
يتحدث عن الشعر، فاإ حديثَه ينطبق على القصة لأنه عام في ذاته، وكما سبق أن
قلنا بأن هناك تماسا ما بين القصة القصيرة والقصيدة .
(2) التاريخ :-

كتابةُ التاريخِ أسفلَ القصة يكون مدخلا لتأويل النص وتأطيره وينطبق قول"
جابر عصفور" السابق الإشارة إليه على كتابة التاريخ، مما يجعلنا نقول إن
كتابة التاريخ يعد من العوامل المؤثرة على صوت النص حيث إنه يُملي على
المتلقي كيفيةَ فِعل القراءة .
(3)المقدمة والدراسة :-

يحتفي
كثيرُ مِن كُتَّاب القصة بالمقدمات النمطية التى تُكتب في بداية المجموعة
القصصية أو الدراسات النقدية التي تأتي في بداية المجموعة على الرغم من
أنها تعتبر من العوامل التى تؤثر على صوت النص، وتوجه الفعلَ القرائي نحو
رؤية الناقد الذي قام بكتابة المقدمة أو الدراسة .
الإشارات:-

يحرص بعضُ الأدباء على الكتابة بطريقة معينة، منها إسرافهم في اللغة
العامية الخاصة بمنطقة محددة يحاول تفسيرها بإدراج الهوامش والإشارات مما
يؤثر على فِعل التخيل لدى المتلقي، وبالتالي التساؤل مِن جانب ومحاولته
إعادة القراءة مرات حتى يفهم من المفردة "العامية أو غيرها ..." التى
أوردها الكاتب في متن النص"
وهناك مَن يذيِّل النصَ ببنط كبير يوضح
مكانَ نشر النص، وهذا توجيه مباشر للمتلقي في كيفية فِعله القرائي في إطار
هذا المكان الذي نُشِر فيه النص، فإذا نُشر في صحيفة "كالأهرام" يُعد هذا
توجها على أن هذا النص جيد فلا تحكم عليه أيها المتلقي أي حكم، خاصة إذا
كان المتلقي عاديا غير متخصص .

(5) تنميط الكتابة :-
يُعد تنميط الكتابة عاملا آخر مِن العوامل التي تؤثر على صوت النص، حيث يتوجه الكاتب بنصه إلى المتلقي في إطار محدد سلفا .
خاصة إذا كان شكل الكتابة لا يحتاج إلي هوامشَ أو إشاراتٍ مثال ما يُكتب
من نصوص المناسبات، خاصة عليها بوضوح كمجموعة "الشمس طلعت يا عربى " لأحمد
ربيع الأسواني2 حيث تأتى مندرجة تحت سلة أدب الحرب مما يقصر رؤية المتلقي
للنص في حدود المعارك العسكرية فقط .

(6) التعليل/ الشرح :-

عندما يحاول الكاتبُ الشرحَ لمتن معين داخل النص، أو إعطاء أسباب لذلك يقحم
صوته على صوت النص، قاطعا التسلسلَ السردي / وإدماجَ المتلقي مع النص
"ويميز علماءُ النص بين أنواع الترابط الموضوعي الشرطي للنص والتماسك
الوظيفي فيه. فالنوع الأول هو الذي يعتمد على الروابط السلبية المعتادة بين
الوقائع التى تدل عليها الأقوالُ، وعادةً ما يشار إليها بمجموعة من
الأدوات الرابطة مثل, لأن، وعليه، ونتيجةً لذلك ولهذا ....الخ. أما النمط
الثاني من التماسك فهو أصعب تحديدا بدرجة كبيرة وهو وظيفي لأنه يَحدث عندما
يعزى إلى أحد الأقوال في النص وظيفة محددة بالنسبة لقول أخر سابق عليه،
فالقول مثلا يمكن أن يقوم بوظيفة التجسيد أو التجريد والتعميم أو لتضاد آخر
سبق في النص" 3
وبقدر ما يتخلص النصُ من الروابط السببية، ويحرص على
التماسك الوظيفي بقدر ما يعلو صوت النص ويتوهج في ذهن المتلقي وتتسع دائرة
التأويل والمتعة .

(7) الزمن :-
قد يكون الزمنُ أحدَ العوامل
التي تؤثر على صوت النص عندما يحاول الكاتب اجتيازَ مستوى زماني كامل يبدأ
من دقيقة إلي أكثر من سنة بمفردة (أضحت/ أضحى/ أمست / أمسى/ ومرت ...)
وغالبا ما تكون هذه المفردة لرصد التغير في التحدث/الشخصية لذلك فإن صوت
النص يحتاج مِن الكاتب أن يجعل هذا التغير يتحدث عن نفسه ليتفاعل معه
المتلقي من منطلق تأويلي لا من منطلق تلقي معلومات .
(Coolالتشبيه :-
"التشبيهُ بذاتِه وفى ذاته هو ما يتولد عنه المعنى، وهو ما يشِع من دلالات
تفضي بدورها إلي تشبيهات أخرى تقترن بدورها بجوانبَ مِن الأثر النفسي يكون
التشبيه متميزا بصوته الخاص، وبالتالي صوت النص عندما يأتي متخلصا من
أدوات التشبيه المعتادة " كان، كيا...." فالأول تخلص من أداة التشبيه فجاء
المشبه والمشبه به مندمجين صوتهما واحد ليجعلنا نتوقف عند الكثير من
التشابهات الأخرى والتي تنبع من ذات التشبيه الأول مثل العروس بدر "الخ
.."بينما استخدام أداة التشبيه جعلت فِعل القراءة يتوقف لينطلق بها كالقمر
وتسائل بداخله ولماذا لاتكون كالشمس؟ ودخول الاحتمالات أثناء فعل القراءة
من جانب المتلقي يجعل القارئ في حالة تشويش لأن النص يتحدث بصوت كاتبه الذي
قد يختلف معه المتلقي .

(9) علامات الترقيم :-
عندما
تُستخدم علامات الترقيم في غير موضعها من النص، أي حيث يتضح أن النص بذاته
وفى داخله لا يحتاجها، فهي بذلك فُرضت على النص من الخارج لهذا فهي من
العوامل المؤثرة على صوت النص.
وإذ كانت العوامل التسعة السابقة قد
تؤثر على صوت النص، فإن هذا التأثيرَ نسبي، ودرجة هذه النسبية تتوقف على
طبيعة النص ومنهج الكتابة لدي القاص.

التشكيل السردي *
يمثل
التشكيلُ السردي أحدَ المحاور الرئيسية في عمليتي التجريب والتحديث
للكتابة النثرية بشكل عام والقصصية بصفة خاصة، ومِن هذا المنطلق حاولنا
رصدَ مدى التطور في التشكيل السردي في مجموعات الدراسة، وقد توقفنا عند
ثلاثة أساليب وهي:
(1) التشكيل السردي المتوازي .
حيث يأتي فِعل
القص علي مستوى سردين متوازين هما الرأسي ويمثل الحدثَ الأساسي لفعل القص،
والأفقي ويمثل الحدثَ الممتد للأمام أو الخلف انطلاقا من الحدث الأساسي وقد
أُطلِق عليه من بعض النقاد السرد الاسترجاعي.
" يمثل الشكل السردي
الاسترجاعي ازدواجيةً في الحكي أو إن صح القول حكاية تتدرج داخل حكاية
الأولى هي الأساس، والثانية دخيلة عليها مطعمة إياها بمعلومات"
أو هو "السرد المتداخل، وهو الذي يقص الأحداثَ المتدرجة بين لحظات مختلفة "3
ونجاح المبدع في هذا التشكيل يفرض علي المتلقي متابعةَ النص منذ بدايته
والتوقف عند النقاط الفاصلة، فلحظات الامتداد أو الاسترجاع ومن ثم العودة
إلى مركزية الحدث أفكار خاصية النص والوقوع في دائرة التيه وعدم الفهم
(2) التشكيل السردي الأوحد .
هذا الشكل مِن السرد يأخذ خطا واحدا حيث يبدأ فِعل القص بالحدث الذي
يتصاعد حتى لحظة التنوير / المفاجأة /الصدمة / الانغلاق والتي تنتهي بها
القصة.
والسرد التقليدي، كان يأخذ هذا التشكيلَ ليمارس به فِعله
الإبداعي الذي يبدأ دائما بالحدث ويتصاعد حتى لحظة الانغلاق / أو ما يُسمي
بالعقدة، ثم يعود ثانية التنوير الذي ينتهي عنده النص تلك النهاية
التقليدية بزواج البطل من البطلة أو عودة الغائب ...الخ.
ولكن القصة
الحديثة تخلصت من هذا جزئيا فربما يبدأ النص غامضا ويتصاعد حتى لحظة
التسوية، أو يقف عند لحظة الانغلاق التي يتوقف عندها الحدث ويترك التأويلَ
للمتلقي، وليس معني الانغلاق الغموض بل علي العكس فربما يكون الانغلاق
أكثرَ وضوحا ومباشرة، ولكن المقصود بالانغلاق توقف الحدث القصصي عند نقطة
معينة لايمكن بعدها مواصلةُ فعلِ السرد دون الوقوع في شَرَك المباشرة
والتقليدية.
أما عن لحظتَي المفاجأة /الصدمة .. فهما يمثلان ما تمثله
لحظةُ الانغلاق فقط المفاجأة قد تكون نهاية تفاجئ المتلقي /والحدث ذاته
داخل النص أو تصدمه كما سنري ذلك في حينه .
(3) التشكيل السردي المتعدد .
يأتي هذا التشكيل مبنيا علي التعدد السردي للحدث القصصي .. والتعدد يأتي
في الشخصيات الساردة أو المسرود عنها متزامنا مع التعدد في المكان والزمان
فقد يبدأ الحدث القصصي بضمير الغائب ويعود إلى ذاته، ويجعلها محورَ الحدث
بضمير المتكلم أو العكس ... وربما يكون زمن السرد حاضرا فيعود إلى الزمن
الماضي ثم إلى المستقبل مع تعدد الأماكن، وهذا التشكيل يتماس مع السرد
المتوازي إلا أن السرد المتوازي يتميز بأن القاص يحرص علي أن يكون سرده علي
مستويين متوازيين، فمثلا يكون هناك فقرة للحدث الأساسي وأخري للحدث الأفقي
وهكذا .. علي عكس السرد المتعدد الذي لايراعي هذه الجزئية.
" وقد
يتحقق البناء المركّب للسرد بفاعلية حضور شخصية جديدة إلى السياق وهذه
الشخصية تحضر محمّلة بذاكرتها الخاصة الغنية بالحكايا والأخبار "7
وهذا
القول للدكتور محمد عبد المطلب ينطبق علي ما سبق أن قلناه مِن أن التعدد
في السرد أو ما أَطلق عليه الدكتور محمد عبد المطلب للبناء المركب السردي _
يأتي في الشخصيات الساردة أو المسرودة عنها -عِلما بأن هذا التشكيل يتناسب
مع فِعل السرد الروائي أكثر منه في القصة القصيرة، حيث إن دائرةَ السقوط
في الترهل السردي واسعة بينما السرد المتوازي أنسب للقصة القصيرة. وعموما
فإن استخدام هذا التشكيل أو ذلك يتوقف على قدرة الكاتب في المقام الأول.

• الرمز وأبعاده *
الرمزية/ إشكالية التأويل الفني عامة، وفي فترة من فترات التاريخ الفني
كانت الرمزية مدرسةً نقدية قائمة بذاتها، ولهذا فهي محور أساسي للصياغة
الفنية لأي فن من الفنون، ونسبية التأويل دائما ما تتوقف علي درجتين:
الأولي مدي صياغة المبدع لرمزه وجودة توظيفه داخل نطاق النص، والثانية مدي
قدرة المتلقي علي التأويل الذي يتوقف على مدي اتساع رؤيته /ثقافته.

والبعد الرمزي يتعدد بتعدد النصوص، فالرمزية الاجتماعية يتوجه خطابُها
لمناقشة قضايا مجتمعية، ويلجا إليها المبدع هروبا من المواجهة الصريحة مع
المجتمع حتى لا يقف عند نقطة الاصطدام مع مجتمعه /بيئته الخاصة، أو ربما
حرصا من المبدع علي توسيع دائرة التأويل مبتعدا عن الواقعية المباشرة التي
تصور المجتمعَ بكاميرا فوتوغرافية، لا يوجد بها أي سِمة من مكان الفن الذي
هو:
"نظام من الرموز تكمن قيمتُه في النظام أولا ثم في الرسالة التي
يقوم بأدائها، وذلك لأن الفن يتكون ويكشف ويوحي من تقديم مستمر للمعاني،
وأيضا من إخفاء مستمر لذلك في الوقت نفسه " 7

الرمزية السياسية :-
وهي سلاح المبدعِ للتعبير عن رؤيته الخاصة، ورؤية مجتمعة تجاه السلطة، وفي
ذات الوقت هي الوسيلة التي تساعد المبدع في عدم الاصطدام المباشر بالسلطة
الذي إذا تم فإنه حتما سيؤثر بالسلب علي فعله الإبداعي. ولنا المثال الواضح
في أستاذنا نجيب محفوظ الذي شكلت الرمزيةُ السياسية والاجتماعية والثقافية
أيضا الكثيرَ من نصوصه، وكان اصطدام المجتمع به مروعا حين أسيئ فهم رمزه
الثقافي /الديني في روايته أولاد حارتنا .

الرمزية الثقافية :-
تأخذ بُعدا ثقافيا أو دينيا، تنتقد مِن خلاله موروثا ثقافيا معينا .. مثال
قصص الرواد التي تصدت للعلاقة بين الثقافتين الغربية والشرقية منها قصة /
رواية قنديل أم هاشم للأديب يحي حقي، فالجهل الذي سيطر على المجتمع احتاج
إلى بطل القصة العائد من الغرب حاملا معه العلم /الثقافة الجديدة لمواجة
المورث المتأصل في أذهان مجتمعه، أو تلك القصص والروايات التي تصدت
للمفاهيم الحديثة علي المجتمع المصري كاشتراكية ورأسمالية والآن العولمة
ونظرية الطريقة الثالثة وصدام الحضارات ..!
وإذا كان الرمز الاجتماعي
ينطلق من المجتمع بوصفه المستهدفَ من الخطاب والرمز السياسي ينطلق من
المواقف السياسية، فإن الرمز التكافئي ينطلق من ذات المبدع بوصفه مثقفا
..مع مراعاة النسبية التي أشرنا اليها سلفا .

*خصوصية المكان*
هي مدي تأثير المكان عامة علي فِعل القص، فحارة أو مقهى نجيب محفوظ على
قدر ما تمثل خصوصيةً لفعل القص المحفوظي، علي قدر ما كان هذا المكان نقطة
انطلاق لقضايا وإشكاليات كبيرة، أثارها النص المحفوظي أو الإدريسي الذي
تمثلت خصوصية المكان في الريف المصري، وما أثاره من قضايا وإشكاليات هو هذا
المكان.
وإذا كان أحمد ربيع الأسواني تأثر فِعله الإبداعي ومثله جميع
أدباء أسوان بالمكان -أسوان تحديدا - فإنه /إنهم جعلوه نقطة انطلاق للنص
وإيجاد لِما بعد النص.
"كان النجع يعج بالأساطير والخرافات "أم شلا شل،
الجنية الجميلة التي تغري الشبابَ بالاقتراب منها، ثم تختفي فجأة بعد أن
يخلعوا سراويلهم فتصاب عقولهم بالاختلال والهوس، وهذه الأساطير استقرت في
الصِغر عبر الوحدات كحقائق، وفيما بعد استحوذت علي قِسم كبير من وعي
الكتابة لدي وشكلت عصبا رئيسيا في كتابتي عن القرية الجنوبية "

وانطلاقا من هذه المقولة لأحمد ربيع الأسواني نستطيع القولَ إن الموروثَ
الشعبي للقرية الجنوبية أحدُ دلائل المكان التى ينطلق منها فِعل القص.
بالإضافة إلى الأبعاد الجغرافية التي تأتى مباشرة لتدل علي المكان المقصود.


* أرجل يابسة ... لحظات الانكسار والألم

صدَّرتْ
الكاتبةُ رجاء عبد الحكيم مجموعتَها القصصية الثانية بإهداء إلى ابنها محمد
" الذي يفزعه غروب الشمس كثيرا ويرفض أن يصدق هذا الغروب .. ويقسِم في
عصبية _ تجبرني على تصديقه _ بأن الشمس سوف تشرق وأن هذا الضياء الخافت هو
بداية لفجر جديد، بينما ينتابني فرحٌ داخلي وأنا أرقب الشمس تسحب شعاعها
الأخير وكأنها تعِدني – أخيرا – بقسط من الراحة "

تبنت الكاتبة
بدايةً من الإهداء قضيةَ الحياة ومؤثراتِها على الإنسان ومعيشته اليومية،
فهي ترغب في الراحة بعد انقضاء يوم عمل وطفلها يرغب في ممارسة الحياة /
اللعب ومثل الكاتبة، أبطالها ففي أول قصص المجموعة (( البدروم )) يمارس
البطلُ حياتَه:
(( يركض بين العربات كبهلوان لا يلقي بالا للشمس
النارية المسلطة على الرؤوس والأجساد ومع الغروب يرغب في الراحة من العمل
الشاق " ومع الليل يكون قد فقد الإحساس بوجوده " ص5
وحتى قصة أعلام تؤكد لأصحاب الأعمال الشاقة / رحلة الالم والانكسار""
مع هرولة الشمس نحو المغيب صار صوته خافتا حزينا)) ص9
كما ترصد انجاز العمل بخبرة العجوز وانكسار الفتى والحمار لِما فقداه من متعة اليوم
" عندما تتسلق الشمس يتسلق ثلاثتهم الطريقَ وقد تشكلت على الفتى والحمار –
دوائرُ من اليأس والعرق والتراب، ترسم على وجهيهما خارطة للحزن بينما
ترتسم على وجه الكهل إشارةُ النصر وقد أمسك بين مخالبه بِصُرة كبيرة )) ص34
• الألم الثقافي
ربما ارتبطت التنميةُ الثقافية فئ ذهن الكاتبة بمستوى الفقر وتدهور
المعيشة التي يبنى ثقافتها في اتجاه واحد وهو كيفية التخلص من الفقر

"لقد عجزت كلماتي عن إصلاح هذه المخلوقات العجيبة التي تضع البيض والأحجار
في سلة واحدة وتتلاعب يهما بمهارة فائقة " بينما تؤكد على الفقر في مقطع
أخر على لسان البطل
" توزعين الشربات في حجرتكم التي لا تصلح سكنا لفأر " ص14
وفى مشهد أخر ترصد الكاتبة ثقافةَ العبث واللعب التي تتسبب في ألم فقدان
الذات .......... في اللعب لدرجة العرق ".. يفترس العرق الوجوه والأيدي ..
"ص16
وتكمِل القاصةُ رصدَها لثقافة العبث بالوطن وعدم الاكتراث بالأم الوطن المتمثلة في جفاف النهر
واعتبار دراسة ومتابعة حالة النهر مجرد لعبة "بل نذهب لنطمئن علي النهر، مطوا شفاههم في امتعاض
لم نسمع عن لعبة كهذا.."
وتتابع (( لقد وجدت سر جفاف النهر )) ولكن المسئول ((طالعه..بوجه صارم
مكفهر سيطر عليه الفزع ، حدث نفسه : لم يكن وجهه أمس في التلفاز هكذا – كيف
جرؤت على الدخول ؟"
لقد نجحت الكاتبة من خلال قصصها المكثفة في بناء
ورصد حالة الألم المصحوبة بالانكسار الذاتي الذي يؤدى إلى الاستسلام دون
بناء رؤية للمقاومة والأمل .. وعلى الرغم من اجتهاد الكاتبة في بنائها
السردي بأن يكون فعل القص لديها متميزا بصوته الخاص إلا أن تكرار استخدامها
لكان وأخواتها في بدء السرد أو في بعض فقراته يفقِد النصَ صوته الذاتي،
ويعلو صوت الكاتبة مبررا فعل السرد الأتي في حين أن المتلقي يحتاج هذه
الدفقة المتوهجة للنص ليعيشها ويبررها ويفسرها بفكره وعمق قراءته.
سأقف عند قصتي المحارب والغرفة الجوانية ص47 ، 49 لتوضيح. ما سبق من مناقشة:
بدأت القصة بـ ((كانت العناكب )) وفى السطر الثاني (( فيما كانت )) وفى
السطر الثالث (( لم تكن )) وفى السطر الرابع ((كان يعاود ))
تخلص الكاتبة من (( كان )) سيعطى النص حيوية ويبرز صوته
وتواصل الكاتبة اختصارَ زمن القص / حالة النص بتصديرها
((فجأة أحكمت الغيمات السوداء قبضتها على القمر )) ص48
فماذا كان يضيرها لو تركت النصَ ببنيته يتحدد فعل السرد القصصي دون صوت
المؤلفة التي تعاود كسر زمن القص بـ (( عندما انقشعت الغيمات بدا البطل
مستلقيا في استرخاء ...ص48
هذا ولا ننكر علي القاصة قدرتَها علي السرد
المكثف والمتدثر برداء القصة الحديثة، كما أنها سعت إلى التركيز علي
الواقع الأليم الذي نعيشه في الوطن الآن .....


النائمون في ظل الأجنحة السوداء ..وسرد متشح بالسواد

يواصل الكاتب ناصر خليل في مجموعته الصورة القائمة التي ناقشتها الدراسةُ في السطور السابقة والتساؤل هل هي رؤية جيل؟
بالتأكيد هناك شواهدُ لنماذجَ ناجحةٍ بالمجتمع .. تتواجد هنا أو هناك صورة بيضاء لماذا هذا السواد .. الذي يملأ النصوص؟:
(( بعد أن نظر يمينه ويساره، ثم قطع اليافطة – بأسنانه )) ص6
صورة قائمة للفقر .. الذي لم تتناوله مؤسسات المجتمع المدني ولم تصل إليه
بدعمها .. الذي يملأ التلفاز ليلَ نهار، ودعوة للاستجداء المستمر حيث الصرف
على هذه الصورة، لا أنتقد الكاتبَ ولا الأحداث التي هي مؤكد حقيقية، لكن
هناك أمل وتتواجد نقطة الضوء وتلح علينا أن نأخذها إلى سطورنا
وفى نص أخر
" فجأة انقضوا عليه وانتزعوا جناحيه وهو ما زال يغني.. حطموا قيثارته
وهو ما زال يغنى .. سقطت .....، هوى خلفها صرخ مستغيثا )) ص10
وفى نص أخر
((نظرت بجواري على المقعد الخشبي فلم أجدها .. على السبورة السوداء اختفى اسمها الأبيض .)) ص11
وفى ذات النص:
((انظر على السبورة السوداء فلا أرى سوى أحلام سقطت أسيرة للسواد )) ص12
ويؤكد الكاتب على رؤيته التي ينظر بها إلى الواقع المرير:
((عشرون مقعدا خشبيا مهترئا.، لا يوجد مقعد يشبه الأخر، يجلس عليها ستون طفلا، زيهم المدرسي لا يختلف كثيرا عن تلك المقاعد )) ص29
لخص لنا في هذا المشهد صورةَ التعليم في بعض قُرى مصر، وكنت أربأ به أن يتواصل في النص
بعد (( ينكمشون في مقاعدهم متلاصقين، يستخرجون كتبهم وأدواتِهم من حقائبهم التي تشبه كثيرا ملابسهم ......)) ص29

حيث كل السرد الآتي بعد ذلك أفقد النصَ توهجه ودفقته الأولى التي شكلت صوت
النص الذاتي، وأعتقد أن القاص ناصر خليل لم يستطع الخروجَ من عالمه الذي
صدَّرَ به مجموعته في باقي نصوص المجموعة .. وقد يتجاوز ناصر خليل هذه
التجربةَ في أعماله القادمة ويعطى فرصة لنصوصه بأن تمتلك صوتها وسطوتها...


صوابع زينب ... الذات والنص

تجلت الذاتُ واضحةً في فعل القص لدى الكاتبة قسمة كتول فبدأت:
"لم أعد تلك الطفلة التي يصرخ في وجهها ينتفض جسدها .." ص5
وتواصل " تتدثر بها من برودة سنوات تسجل غيابات متكررة للفرح .. تعبئ نفسها في خانة " بكرة تتعدل )) ص10
وتواصل (( هي تحلم بعناق البطل الأسطوري، وهو يحلم بجسد بطلة خالٍ من العيوب ))) ص12

نجحت الكاتبةُ في أن تجعل محورَ " ذات الأنثى " هو طريقها للعزف القصصي
الذي تبدأ به دائما كاتباتُ الجنوب يبدأن من ذواتهن، جغرافيتهن وثقافتهن ..
وإن كان الشكل متكررا على مستوى نصوص المجموعة وكذلك على مستوى إبداع
الجيل وأيضا إبداع الكاتبات تحديدا بأسوان، إلا أنني لن أتوقف عند ذلك
فالإشارة تكفى.

في بناء سردي يأخذ المستوى المتوازي تنطلق
القاصة بسردها من الذات الأنثوية، لتشكل في مجمل النصوص متوالية قصصية،
تقرأها كنص واحد أو كل نص بمفرده.
في قصتها الأولى (( الذئبة ))
تنادي على أنوثتها وبكارتها (( لم أعد تلك الطفلة التي يصرخ في وجهها ينتفض
جسدها )) ص5، وفى قصتها الثانية ترصد تأخر سن الزواج عند كثير من البنات
(( كأنها هي المعنية بغزل الأيام وشاحات صبر تتدثر بها من برودة سنوات تشمل
غيابات متكررة للفرح .. تعبئ نفسها في خانة (( بكرة تتعدل )) لكن (( بكرة
)) هذا يأتي وهو محمّل ببقايا أمنيات مبتورة. "ص10

وتواصل رصدَها للذات الأنثوية في القصة الثالثة (( خانة الأنثى )) التي تحكي حالةَ ما بعد الزواج وانتقاد بطلتها للحب:
" جلستْ إلى جوار زوجها يطالعان التلفاز، وهى تحلم بعناق من البطل
الأسطوري، هو يحلم بجسد بطلة خالٍ من العيوب .. يذهبان إلى فراشهما .. يحلم
كل منهما بجسد بطله في الآخر لا هي حصلت على عناقها , وهو تعرقل في
تراكمات لحمية ...)) ص12
وعند قصتها صوابع زينب ترتد القاصة للخلف لمرحلة ما قبل الزواج عند إحداهن، وهى مرحلة الإغواء من قِبَلها لزوج المستقبل:
(( منذ اليوم الأول قررتْ أنه هدفها, رجلا في سن تقريبا .. مناسب ووظيفته
مناسبة لم يتزوج بعد " عريس لقطة " .. هي تدرك أهدافها وتصر عليها، جاءها
وهو مشدود بحبالها وكأنها نثرت فوقه كل تعاويذها ..))ص 16
وتواصل
الكاتبة ارتدادَها للخلف لتحقق بذلك بنيةَ السرد المتوازي في نصوصها التي
نقرؤها كمتوالية قصصية كما سبق القول، وذلك في قصة "قطة مش مغمضة" لترصد
فترةَ المراهقة لدى بطلتها التي يجب أن تلتحف بتقاليد القرية، وتأخذ عن
أمها كل موروث:
(( سأعود في الموعد المحدد لتعليمات أمي.. أنا
دستورها الذي يدب على الأرض " بتها اللي بتسمع كلامها وما تعملش أي حاجة من
غير عِلم أمها..)) ص17
وتواصل ذاتَ الرصد لمرحلة المراهقة في قصة مسلسلات تركية بارزة لثقافة المجتمع:
(( البت المؤدبة تسمع كلام ناسها حتى لو غلط
البت المؤدبة ما تضحكش بصوت عالى
البت المؤدبة ما تجادلش أمها فى أى حاجة تقولها)) ص20،21
وتعود القاصة إلى مرحلة الزواج في قصة (( أحاديثنا الصامتة ))، ثم ترتد
إلى مرحلة ما قبل الزواج في قصة حلم الصبا لترصد لنا صدمةَ الحب الأول ..
شكلت هذه البنيةُ السردية فعلا قرائيا جيدا مع النصوص لكن الرؤية واحدة،
والرصد الفكري للنصوص يكاد يكون ذاتيا بحتا تَشبَّع القارئ بها مع الصفحات
الأولى فلم تجد هذه البنية المتميزة في السرد بأن تجعل القارئ يحلِّق في
أفاق جديدة مع النصوص..
وفى النهاية ...
أعتقدُ أنني حاولتُ
مجتهِدا أن أقرأ بهدوءٍ ثلاثَ تجاربَ جديدة في القصة القصيرة لكُتَّاب جدد،
وربما أمامي تجاربُ الزملاءِ بالأمس القريب .. كنتُ أرغبُ أن يحلِّق
أصدقائي في أفاق جديدة، وأن تكون عوالمُهم جديدةً بفعل القص، فِكرا وبنيةُ
ورؤية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

أولا المراجع:
(1)_جابر عصفور _ دكتور _مجلة العربي الكويتي _عدد مارس 2000 ص82
(2)_ أحمد ربيع الأسواني _قاص _ مجموعة الشمس طلعت يا عريس _ الهيئة العامة للكتابة
(3)_ صلاح فضل _ دكتور _ بلاغة النص وعلم النص _ طبعة سلسة عالم المعرفة 164سنة 1992
(4)_ جابر عصفور _دكتور مجلة العربي مرجع سبق ذكره
(5)_ عفاف عبد المعطي دكتورة |_فتحي غانم قاصا _طبق عدد الهيئة العامة للكتابة 214-215 عدد 50 سنة 2000
(6)_ صلاح فضل مرجع سبق ذكره ص310
(7)_ محمد عبد المطلب دكتور بلاغة السرد الهيئة العامة لقصور الثقافة سلسة كتاب نقدية عدد (114) سنة 2001 ص118
(Cool_ محمد الراوي _المغامرة الإبداعية /الرسائل الأدبية لضياء الشرقاوي ط الهيئة العامة لقصور الثقافة /كتاب الثقافة الجديد
(9)_ احمد ربيع الأسواني _ العدد الأول _ إصدار نادي أدب ادفو الهيئة العامة لقصور الثقافة سنة 2000
10-الموقع الالكتروني www.emadezat.com بوابة مناقشات
ثانيا المصادر:
1-أرجل يابسة للقاصة رجاء عبد الحكيم الفولي – صادر عن الهيئة العامة لقصور الثقافة –فرع قنا-2013
2-النائمون في ظل الأجنحة السوداء –للقاص ناصر خليل –صادر عن فرع ثقافة الأقصر-2013
3-صوابع زينب –للقاصة قسمة قتول-فرع ثقافة أسوان -2012

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة